نحن والسندباد 2

lundi 7 novembre 2011

الإيهام والإبهام
رغم تعرف السندباد البري على الفضاء الغريب ورغم صحبته للسندباد البحري فإنه يبقى موسوما بـ ’’ البري ‘‘ و ’’ الحمال ‘‘ . ماذا يحمل ؟ قبل ولوجه الفضاء الغريب كان يحمل ’’ أسباب الناس ‘‘ بالأجرة . وبعد هذا الولوج تحسنت حاله إلا أنه ظل يحمل ثقل الأرض ، عنصره الأساسي الذي لا يملك إزاحته عن كاهله . خطواته كلها تتم فوق البر ولا مناص له من الخضوع للعنصر الذي ينتمي إليه والذي يجذبه ويشده إليه .
أما السندباد البحري فإنه ينتمي إلى الماء الذي لا يستقر على حال إذ هو دائم الحركة والتغير . ليس هناك سكون على وجه البحر وإنما مد وجزر ، أمواج ورياح هوجاء يتلوها هدوء لا يجوز الاغترار به لأنه ليس سوى حركة أقل سرعة وأقل قوة . ولكن سمة السندباد البحرية لا تطمس جانبه البري كما أن السمة البرية لصاحبه لا تمنعه كليا من الانجذاب إلى البحر . السندباد البحري ، على الرغم من النعت الذي يوصف به ، مرتبط بالبر الذي لا يعني ، بالنسبة إليه ، التعب والضنى تحت الحر وإنما السلامة والراحة والأمن . البر هو فضاؤه المألوف الذي يجد فيه أحبابه ورفاقه والعادات التي تربى عليها والتي تبدو له بديهية ومتفوقة على عادات الأقوام الآخرين . ومع ذلك فإنه يلبي دائما نداء البحر : ’’ فاشتاقت نفسي إلى الفرجة في البلاد وإلى ركوب البحر وعشرة التجار وسماع الأخبار ‘‘ . إذا كان البر يضمن الاستقرار والاطمئنان فإن البحر يضمن الغنى ومشاهدة عجائب البلدان . لهذا فالتذبذب هو ما يميز السندباد الذي يضع رجلا هنا ورجلا هناك .عندما يكون في البر يشتاق إلى البحر ويتنكر لعنصره البري ، وعندما يكون في البحر يندم على مفارقته لبغداد ويتنكر لعنصره البحري : ’’ وصرت ألوم نفسي على ما فعلته وقد تعبت نفسي بعد الراحة وقلت لروحي يا سندباد يا بحري أنت لم تتب وكل مرة تقاسي فيها الشدائد والتعب ولم تتب عن سفر البحر وإن تتب تكذب في التوبة فقاس كل ما تلقاه فإنك تستحق جميع ما يحصل لك ‘‘ .
البحر فتنة تسلب العقل وتؤدي إلى الهلاك وعلى قدر الفتنة يكون النفور . هذا ما يمكن استنتاجه من صفات العالم الغريب الذي يعرض أشياء تغري السندباد وأشياء يشمئز منها .
الصفة الأولى تتعلق بحجم المخلوقات الذي يختلف عما هو شائع في العالم المألوف . هناك مثلا ’’ القرود ‘‘ أي الأقزام ’’ وهم أقبح من الوحوش وعليهم شعور مثل لبد الأسد ورؤيتهم تفزع ولا يفهم أحد لهم كلاما ولا خبرا وهم مستوحشون من الناس صفر العيون سود الوجوه صغار الخلقة طول كل واحد منهم أربعة أشبار ‘‘ .على ان الضخامة هي الميزة الغالبة . عندما يحلق الرخ في السماء فإنه يحجب الشمس كما تفعل الغمامة ويظلم الجو . والفيل الذي هو أكبر حيوان في عالم السندباد المألوف ، لا يزن أكثر من ذبابة فوق قرن ’’ الوحش المسمى بالكركدن ‘‘ . الكركدن هذا ’’ يحمل الفيل الكبير على قرنه ويرعى به في الجزيرة والسواحل ولم يشعر به ويموت الفيل على قرنه ويسيح دهنه من حر الشمس على رأسه ويدخل في عينيه فيعمى فيرقد في جانب السواحل فيجيئ له طير الرخ فيحمله في مخالبه ويروح به عند أولاده ويرزقهم به ‘‘ .
الصفة الثانية للفضاء الأجنبي هي مزجه للمتناقضات والمتنافرات إذ تتجاور فيه أشياء نفسية مع كائنات مخيفة : ’’ ومشيت في ذلك الوادي فرأيت أرضه من حجر الألماس .... وكل ذلك الوادي حيات وأفاع ‘‘ .. ليس للوادي منفذ ولا مخرج ويبقى السندباد يهيم في جنباته متأملا الأحجار الكريمة ومتحسرا على إحراز ثروة هائلة لن يستفيد منها إذ ينتظر بين لحظة وأخرى أن يصير في جوف حية . أسباب الغنى والسعادة تتجاور مع أسباب الذعر والموت .
الصفة الثالثة هي وجود شعائر وعادات لم تكن تدور بخلد السندباد فيقشعر منها جلده ويشعر بالدوار تجاهها . فهناك قوم يتلذذون بأكل لحم الآدميين ثم هناك قوم لهم عادة رديئة جدا إذ كلما ’’ ماتت المرأة يدفنون معها زوجها بالحياة وإن مات الرجل يدفنون معه زوجته بالحياة حتى لا يتلذذ أحد منهم بالحياة بعد رفيقه ‘‘ .
العالم الغريب ميدان فسيح للوصف المفصل ، بينما في العالم المألوف تكفي الإشارة والتلميح . ليس هناك أي داع لوصف بغداد أو الفيل أو النسر : التسمية وحدها كافية لإبراز خصائص الكائنات المألوفة . وليس هناك كذلك أي داع للتحدث بإسهاب عن عادات العالم الذي ينتمي إليه الراوي . فعندما يعلن هذا الأخير أنه إثر عودته إلى بغداد ’’ تصدق ووهب وأعطى ‘‘ فإنه لا يشعر بأدنى حاجة إلى أن يضيف أنه فعل ذلك شكرا لله لأنه شيء معلوم . علة الأحداث معروفة في عالمه ولا تحتاج إلى تفسير أو تعليق . العالم المألوف يقتصد فيه في القول بينما لا بد من الإطالة في وصف العالم الغريب لأنه مجهول .
الصفة الرابعة تتعلق بالتسمية . لا يخفى ما للتسمية من أهمية قصوى إذ بفضلها يتم ضبط الأشياء والتجول بثقة خلالها . السندباد كثيرا ما يعجز عن تسمية الأماكن التي تلقيه فيها العواصف . إذ ذاك يكون الضلال والضياع لأنه لا يستطيع وضع اسم على الجزيرة التي يوجد فيها فلا يدري الجهة التي يجب عليه أن يقصدها ليتم له الخلاص والنجاة . سئل مرة بعد عودته إلى بغداد عن مدينة عاش فيها مدة من الزمن فأجاب ’’ والله لا أعرف للمدينة ... اسما ولا طريقا ‘‘ العالم الغريب له خريطته الخاصة التي تختلف عن خريطة العالم المألوف .
وقد يحدث أحيانا أن التسمية العامة المجردة ( جزيرة ، إنسان .. ) تصدر عن الوهم والالتباس . فمثلا يبصر السندباد ’’ قبة كبيرة بيضاء شاهقة العلو كبيرة الدائرة ‘‘ ولكن يتبين له فيما بعد أنها ’’ بيضة من بيض الرخ ‘‘ . ومرة أخرى ينزل هو والبحارة إلى ’’ جزيرة كأنها روضة من رياض الجنة ‘‘ ثم يعلمون بعد فوات الأوان أن ما ظنوه جزيرة ’’ إنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر فبنى عليها الرمل فصارت مثل الجزيرة وقد نبتت عليها الأشجار‘‘ . وعلاوة على ذلك ما هو الاسم الجدير بالقوم الذين يأكلون لحم البشر ’’ بلا شي ولا طبخ ‘‘ ؟ وأي اسم يليق بأهل مدينة ’’ تنقلب حالتهم في كل شهر فتظهر لهم أجنحة يطيرون بها إلى عنان السماء ‘‘ .
هذه الأسئلة تؤدي بنا إلى السؤال التالي : ما هو التعريف الذي يليق بالسندباد ؟ هل سعيه في العالم الغريب يجعله ، ولو إلى حد ما ، غريبا عن نفسه ؟ بعبارة أخرى ، هل هو متمسك كل التمسك بمنطق العالم المألوف بحيث يسلم من عدوى الغرابة ؟
نفس المصدر ، الصفحات 98 - 101
يتبع
...تابع القراءة